حسام السويفي يكتب: بين السلطة والقلم.. الباز يعيد كتابة علاقة هيكل ومبارك
صدر كتاب «هيكل ومبارك.. حروب باردة بين الكاتب والرئيس» للدكتور محمد الباز في مجلدين ضخمين، تجاوز الجزء الأول 376 صفحة، بينما جاء الجزء الثاني في 368 صفحة، هذا الحجم الكبير أثار ملاحظة عدد من المتحدثين في حفل توقيع الكتاب بدار «بتانة» للنشر أمس، وعلى رأسهم الكاتب الصحفي أكرم القصاص، الذي رأى أن العمل ربما كان يمكن اختصاره، لكن جاء رد الباز أنه يكتب لقارئ لا يعرفه ولا يعرف تفاصيل كل ما جرى من العلاقة بين هيكل ومبارك.
ومن القراءة الأولى للكتاب، يجد القارئ أن هذا الامتداد بالفعل لم يكن حشوا ولا إطالة غير مبررة، بل كان ضرورة لإحاطة علاقة معقدة امتدت لعقود بين اثنين من أبرز رموز مصر في الصحافة والسلطة، محمد حسنين هيكل وحسني مبارك.
فالكتاب لا يخاطب القارئ المتخصص وحده، بل يقدم مادته بزاوية من يريد أن يعرّف القارئ العام، الذي قد لا يعرف أسرار العلاقة المعقدة بين هيكل ومبارك بمشهد كامل مكتمل البناء، وبشهادات موثقة ووقائع مدروسة، لا مجرد تحليل أو انطباعات شخصية، أو مؤدلجة.
يفتتح الباز كتابه بمقدمة لافتة حملت عنوان «قبل القراءة.. اقتحام الأسلاك الشائكة»، وفيها يروي اللحظة الأولى التي دفعته لطرق هذا الملف الشائك، كان ذلك في نوفمبر 2006، عندما احتفلت مؤسسة الأهرام بمرور 130 عاما على تأسيسها، بحضور الرئيس الأسبق حسني مبارك، يومها، لاحظ الباز غياب هيكل، كبير كتاب مصر وصاحب التاريخ الأطول في الأهرام عن المناسبة.
هذا الغياب كان الشرارة الأولى،
الباز طلب من الكاتب الكبير عادل حمودة في اجتماع مجلس تحرير جريدة الفجر أن يكتب قصة هيكل مع الأهرام، فعاد حمودة برد غير متوقع: «لماذا لا نذهب إلى هيكل نفسه ونسمعه؟».
وبالفعل، جرى الحوار الشهير في منزل هيكل ببرقاش، وهو الحوار الذي أعاد فتح صندوق أسرار ممتد من الستينيات حتى بدايات حكم مبارك.
في هذا اللقاء، يشير هيكل للباز إلى ما أسماه «كنزه الحقيقي» وهو 11 كتابًا كتبها باللغة الإنجليزية، قلما انتبه إليها القارئ العربي.
هذه الكتب منحت الباز مدخلا جديدا لقراءة هيكل، ليس بوصفه كاتبًا محليا فقط، بل باعتباره واحدا من أهم «صناع السرد السياسي» في المنطقة أمام القارئ العالمي.
ومن هذه النقطة يبدأ الباز تحليل علاقة الرجلين؛ الكاتب الذي يرى أن من حقه أن يخطّ تاريخ الدولة، والرئيس الذي لم يكن راغبا في أن يكون «هيكل الثاني» على كرسي الحكم بعد تجربة عبد الناصر.
يذكّر الباز القارئ بمقال صلاح عيسى الشهير عن هيكل المنشور في مجلة «الهلال» عام 1989، والمعاد نشره تحت عنوان «الكاهن والفرعون»، ليؤكد أن قراءة هيكل تتطلب أدوات خاصة؛ فالرجل ليس مجرد صحفي، بل «منظومة فكرية وسياسية» تحتاج إلى تفكيك هادئ.
ولذلك، يمضي الباز في كتابه بين محطات العلاقة بين هيكل ومبارك، من دون انحيازات مسبقة، فلا هو يقدّس هيكل كما يفعل بعض الناصريين، ولا انتقص من قيمته المهنية، بل عمد إلى تشرح أفكار هيكل بمشرط جراح يدرك كيف ينهي العملية دون أن يقتل المريض، أو يضع على وجهه مساحيق تجميل بعد انتهائها.
يتوقّف الباز بشكل واضح عند ما اعتبره «تشويهًا فكريًا» في كتاب هيكل «مبارك وزمانه» الذي صدر عام 2011، وما تلاه من أجزاء لم تحقق نجاح الجزء الأول، ويعيد ذلك إلى أخطاء في النشر، خاصة في الدعاية من دار التشر، إضافة إلى تكرار هيكل لسرديات سبق أن طرحها في الجزء الأول.
لكن الباز لا ينهال على هيكل نقدا، بل يضع كل رواية على طاولة التشريح، ويعرض الوثائق والشهادات التي تثبت أو تنفي ما ورد، ليمنح القارئ مساحة للحكم بنفسه.
رغم ضخامة، فإن الكتاب لا برهق قارئه، فاللغة سلسة، والتحليل متوازن، والحكايات ثرية، والعلاقة بين هيكل ومبارك تكشف جوانب لم ترو عن الاثنين معا هيكل الصحفي الأعجوبة الذي لم يتكرر، ومبارك الرئيس الذي أخفى الكثير من أسرار حكمه، وبقيت بعضها لغزا سياسيا حتى بعد سقوطه.
من القراءة الأولى لكتاب «هيكل ومبارك.. حروب باردة» لن تجده كتابًا عن صراع شخصي، بل عن صدام بين طريقتين في فهم الدولة، والإعلام، والسلطة، والتاريخ، إنه عمل يستحق القراءة قبل الحكم.






